رمضان 2013 - بلا خبز - وسام شهلا

أسواق جنوب دمشق خاوية - مصادر مفتوحة

رمضان 2013 - بلا خبز

وسام شهلا

بعد بقائي لمدة ستة أشهر في الغوطة الشرقية، وبعد تنقلاتي العديد بين مدن وبلدات الغوطة، قررت في 14 شباط عام 2013 التوجه إلى مخيم اليرموك، عبرت طريق تهريب، سيرًا على الأقدام، 7 ساعات مثقلًا بالطين والوحل، والتعب والخوف،لم أدري يومها بأنني أسير باتجاه مجاعتي، وأن حصارًا ينتظرني، وسأكون أحد ضحاياه، وشاهدًا على واحدة من أكبر الانتهاكات في هذا القرن.

دخل رمضان في شهر تموز 2013 مع حركة عبور خفيفة لأهالي جنوب دمشق من معبر مخيم اليرموك، وهو معبر الحي الرئيسي عند دوار البطيخة، إذ بدت ملامح الحصار تلوح فوق سماء جنوب دمشق، وذلك بعد أن قامت قوات النظام بإغلاق معظم المعابر التي تؤدي من-إلى المنطقة، وأبقت على بعضها مفتوح بشكل جزئي، وبشكل غير يومي، على مزاج رئيس الحاجز، وبحسب التعليمات. كنت في تلك الفترة أقيم في منزل في شارع الثلاثين في منطقة مخيم اليرموك، كان الحي محررًا من سلطة النظام السوري والميليشيات الف.لسطينية التي اصطفت مع النظام في حربه على الشعب السوري، وفي المقابل، كانت حالة الفوضى وقلّة التنظيم أحد أكبر المعضلات التي أدت لتفاقم الأمور في المنطقة، فمنطقة جنوب دمشق كما سُميت اصطلاحًا خلال الثورة السورية، تشمل 14 حي وبلدة، تدار بشكل فوضوي، ولم يكن يجمعها أي كيان تنظيمي حوكمي واحد، بل كانت مجالس محلية متقوقعة على ذاتها، تقوم بالتنسيق بين بعضها عند الحاجة، وعلى الصعيد العسكري، لم يكن هناك قيادة عسكرية مركزية تدير العمل المسلح في المنطقة، والمبادرات التي نشأت سرعان ما انهارت، لأسباب كثير ومعقدة، وأبرزها الخلافات في المشارب الفكرية الإ.سلامية، والمناطقية المتجذرة في المنطقة قبل الثورة، حتى أن ما عُرف بالمحاكم الشرعية في تلك الفترة، والتي كانت تُدير شؤون سكان المنطقة، لم تسلم من التجاذبات، وضربات العسكر في عدة مرات.

بشكل عام، كان المشهد في جنوب دمشق كما هو متوقع، فوضوي بامتياز، ولم تتنبه الفصائل والجهات المدنية في المنطقة لخطر قادم إلا عندما أغلق النظام المعابر، وانقطع الخبز.

على معبر المخيم (الجسر)، اشتركت قوات النظام المتمثلة بالأفرع الأمنية، وميليشيات الدفاع الوطني، والجبهة الشعبية لتحرير فل.سطين - القيادة العامة، وغيرها من الميليشيات الفل.سطينية الموالية للنظام، اشتركت على المعبر، ومارست دورها في مراقبة عدد أرغفة الخبز، وأوزان المواد الغذائية التي تدخل إلى المنطقة، ففي رمضان 2013، أغلق الحاجز عدة مرات، واستأنف عمله مرات عدة، لكن قرار النظام كان بمنع الخبز أكثر من ربطة واحدة للشخص، أو نصف كيلو من أي مواد غذائية يحملها اي شخص يعبر إلى المنطقة، وفوق هذا كله، إهانة وضرب وحوادث اعتقال، واشتباكات عسكرية فوق رؤوس المدنيين، كانت رسائل النظام واضحة، سياسة التجويع التدريجي.

على الجهة المقابلة، كنت أذهب أحيانًا مع سيدة دمشقية إلى المعبر، وأنتظرها ساعات حتى تعود من دمشق، كنت أقف على تلال من دمار، عند ساحة الريجة، أمامي طريق اليرموك الرئيسي، به موج من البشر بملامح التعب، والجوع، وبداية خطوط حصار. رجال وشباب يفترشون الطريق، ينتظرون نسائهم وبناتهم حتى يعدن إلى المنطقة، يحملن ما سمح به الجند عن الحاجز، وكان خلفي حاجز للجيش الحر، مشترك مع عدد من عناصر جبهة ال.نصرة، ومع كتائب أكناف بيت المقدس ومجموعات فل.سطينية وقفت مع الشعب السوري والفل.سطيني في سوريا، وقاتلت لأجله.

بدأت المنطقة تستنزف مخزونها الغذائي، وبالرغم من توفر المواد الغذائية بشكل مقبول، إلا أننا بدأنا نشعر بفقدان بعضها، وعلى رأسها الطحين، والسُكر، فكان من غير المقبول أن ينتهي الإفطار دون كأس شاي، إلى أن نفذ الخبز، واحتفظ كل من أدخل رغيف عبر المعبر برغيفه، وأمضيت رمضان هذا بلا خبز، وبدأت أبحث عن الخبز القديم (البايت). لم أكن أعلم بأن أشهر قليلة جدًا، سأتناول حشيش الأرض، ونباتات لا تأكلها الفئران والمواشي، كحال نبتة "رجل العصفورة".

في رمضان 2013، كان الحصار على جنوب دمشق جزئي، ثم تبدل إلى حصارًا تام بعد شهر تقريبًا، واستمر حتى الربع الأول من عام 2014، إذ تسبب في مقتل قرابة 250 شخص معظمهم في مخيم اليرموك من أبناء الشعب الفل.سطينيي، وتشارك السوري والفل.سطيني في جنوب دمشق تلك المأساة، لا يتسع ذكرها هنا.

للتنويه، في الفترة الأخير، صرت اسمع ناشطين، وسياسيين على مواقع "معتبرة" يحكون عن "حصار مخيم اليرموك"، وهذا الأمر إذا استمر (عن طيب نية)، سيكون بمثابة تحويرًا للحقيقة، واجحاف بحق السوريين في تلك المنطقة، فلم يكن مخيم اليرموك وحيدًا في مأساة الحصار تلك، كان معه سكان كلًا من بلدات وأحياء: التضامن، والحجر الأسود، والعسالي، والقدم، ويلدا، وببيلا، وبيت سحم، وحجيرة، والسبينة، والبويضية، والذيابية، والحسينية، والبحدلية، وعلى مدار تواجدنا في الحصار لم نخّص منطقة دون أخرى، ولم تتسابق الأحياء تلك على كأس الحصار، كما يفعله اليوم بعض من عاشوا معنا، أو شاهدونا من الخارج. كان اسمه حصار جنوب دمشق، ومازال، وأي ذكر لأي من تلك الأحياء في سياق الحصار، يرجى ذكر الاسم الحقيقي للحصار، حصار جنوب دمشق.
تعريف الارتباط

نستخدم ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة.