أ. أحمد حاميش
شهدت سوريا منذ اندلاع الثورة عام 2011، موجة هجرة غير مسبوقة لم تقتصر على المدنيين الباحثين عن الأمان، بل شملت أيضاً أصحاب الكفاءات العالية والخبرات المتخصصة في مختلف المجالات.
وساهمت سياسات القمع التي انتهجها نظام الأسد، إلى جانب الحرب المدمرة، في دفع آلاف العقول السورية إلى مغادرة البلاد، وأثبت السوريون رغم المأساة قدرتهم على النجاح في دول اللجوء، لا سيّما في ألمانيا التي تحتضن أكثر من 800 ألف سوري، وأصبحت قصص نجاحهم هناك مصدر إلهام عالمي.
• أسباب هجرة العقول السورية:
1/ القمع السياسي وانعدام الحريات:
شكل القمع السياسي منذ عقود ركيزة أساسية لسياسات نظام الأسد، ما أدى إلى هجرة واسعة للكفاءات.
واعتُقل الآلاف من النشطاء والمثقفين بسبب آرائهم السياسية، بينما فرّ آخرون هرباً من الاعتقال التعسفي.
وكانت حرية التعبير والعمل الأكاديمي شبه معدومة، مما دفع آلاف العلماء والباحثين إلى الهجرة بحثاً عن بيئة آمنة.
2/ الحرب وتدمير البنية التحتية:
أدى القصف العشوائي للنظام إلى تدمير الجامعات والمراكز البحثية، مما جعل استمرار التعليم والعمل الأكاديمي مستحيلاً داخل البلاد.
نزح حوالي 12 مليون سوري، غادر نصفهم البلاد، في كارثة إنسانية طالت كافة شرائح المجتمع، بما فيها النخب والكفاءات.
3/ الأزمة الاقتصادية:
انهيار الاقتصاد السوري وارتفاع معدلات البطالة دفعا العديد من الخبراء والمهنيين إلى البحث عن فرص عمل في الخارج.
وفقًا لتقارير رسمية، تراجعت قيمة الليرة السورية بشكل كارثي، بينما ركز النظام موارده على تمويل الحرب بدلاً من دعم القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة.
4/ الفساد والمحسوبية:
اعتمد النظام على الولاء السياسي كأساس للترقي الوظيفي، مما أحبط العديد من أصحاب الكفاءات الذين وجدوا أنفسهم خارج دائرة الفرص.
أدى انتشار الفساد إلى تدمير منظومة العمل المهني داخل سوريا، مما جعل الهجرة الخيار الوحيد للكثيرين.
• آثار هجرة العقول:
1/ على سوريا:
نزيف الموارد البشرية.
تشير التقارير إلى هجرة آلاف الأطباء والمهندسين والأساتذة الجامعيين، مما أثر بشدة على القطاعات الحيوية.
تدهور الخدمات الأساسية.
يعاني قطاع الصحة من نقص حاد في الكوادر، بينما انخفضت جودة التعليم بشكل ملحوظ، لتصبح الجامعات السورية في أدنى تصنيفاتها العالمية.
2/ على الدول المستقبلة:
تعزيز الاقتصادات المحلية.
في ألمانيا وحدها، يعمل حوالي 131,600 سوري في وظائف خاضعة لمساهمات الضمان الاجتماعي، بينهم 5000 طبيب و2000 صيدلاني.
الإثراء الثقافي والعلمي.
أصبح السوريون من أبرز المساهمين في مجالات التعليم والصحة والهندسة، مما عزز التنوع الثقافي والعلمي في المجتمعات المستضيفة.
3/ على المستوى الدولي:
تحولت هجرة الكفاءات السورية إلى قضية إنسانية وسياسية، تثير نقاشات حول ضرورة إيجاد حلول تدعم اللاجئين وتعزز إعادة الإعمار في سوريا.
• السوريون في ألمانيا، قصة نجاح متميزة:
1/ قطاع الصحة:
أكثر من 5000 طبيب سوري يعملون حالياً في ألمانيا، إلى جانب آلاف الصيادلة والممرضين، مما ساعد في سد النقص الحاد في الكوادر الطبية، خاصة في المناطق الريفية، وفق مصادر رسمية متعددة.
2/ التعليم والبحث العلمي:
يشكل الطلاب السوريون، البالغ عددهم حوالي 4744 طالباً، رابع أكبر مجموعة من الطلاب الأجانب في الجامعات الألمانية، مما يعزز مكانة التعليم الألماني عالميًا.
3/ ريادة الأعمال:
أسس السوريون مشاريع ناجحة في مختلف القطاعات، بما في ذلك المطاعم، ومتاجر المنتجات الشرقية، وشركات التكنولوجيا، مما أسهم في دعم الاقتصاد المحلي.
4/ سوق العمل:
بحلول عام 2019، تم تسجيل حوالي 260,200 سوري كباحثين عن فرص عمل، بينما كان 116,600 منهم جاهزين لسوق العمل.
• الأرقام والحقائق، دلالة واضحة على النجاح:
71% من اللاجئين السوريين في ألمانيا حاصلون على شهادة تخرج من المدرسة، مقارنة بمعدل أقل بين مجموعات اللاجئين الأخرى.
38% من الحاصلين على الجنسية الألمانية في 2023 كانوا من السوريين، حيث تم تجنيس 75,500 سورياً.
متوسط إقامة السوريين في ألمانيا للحصول على الجنسية بلغ 6.8 سنوات، مقارنة بـ 8 سنوات وفقاً لقانون القديم.
تتمتع الفئة الشابة من اللاجئين السوريين بمستويات تعليمية مرتفعة، حيث إن حوالي 36% من السوريين في ألمانيا سعوا للاعتراف بمؤهلاتهم الأكاديمية والمهنية، وفق دراسات ألمانية.
• دور نظام الأسد في تهجير العقول:
لعب نظام الأسد دوراً مباشراً في تفريغ سوريا من كفاءاتها، عبر سياسات الترهيب والقمع.
تسبب تدمير الجامعات والبنية التحتية بفقدان البيئة التي يحتاجها أصحاب الخبرات للنمو والإبداع.
ساهم غياب الإصلاحات الاقتصادية والاعتماد على المحسوبيات في إحباط أصحاب الكفاءات، مما جعل الهجرة الخيار الأوحد.
• الحلول الممكنة لمواجهة الظاهرة:
1/ إنهاء الحرب وتحقيق الاستقرار:
يُعتبر وقف النزاع في سوريا الخطوة الأولى لخلق بيئة آمنة تشجع الكفاءات على العودة.
2/ بناء نظام سياسي ديمقراطي:
يجب إقامة نظام يضمن الحريات ويكافح الفساد، مما يتيح للكفاءات الفرصة للمساهمة في إعادة بناء الوطن.
3/ الاستثمار في التعليم:
دعم الجامعات والمؤسسات البحثية في سوريا سيخلق بيئة جاذبة للعلماء والباحثين.
4/ تعزيز التعاون الدولي:
يمكن الاستفادة من الكفاءات السورية في الخارج عبر برامج تعاونية للمساهمة في إعادة الإعمار.
• الخاتمة:
هجرة العقول السورية ليست مجرد ظاهرة هجرة طبيعية، بل هي نتيجة مباشرة لسياسات نظام الأسد القمعية وحربه المدمرة، ورغم الخسائر الفادحة، أظهر السوريون في الخارج قدرتهم على تحقيق نجاحات استثنائية، خاصة في ألمانيا، حيث أصبحوا نموذجاً يُحتذى به في الاندماج والإبداع.
كما إن مستقبل سوريا يعتمد على إنهاء الحرب، بناء نظام سياسي عادل، والاستثمار في الإنسان، مما يتيح للكفاءات المهاجرة فرصة العودة والمساهمة في بناء وطن جديد يعكس طموحات أبنائه.